رَصْد مصدر اندلاع راديوي وقت انبعاثه

إذا كانت لعينيك القدرة على تمييز الضوء راديوي التردد، فكيف ستبدو السماء لك؟ لفترة طويلة ظننا أننا نعلم الإجابة: سترى مجرّة درب التبانة مضيئة بشكل مذهل، وسترى حلقات دخان منبعثة من النجوم المتفجرة، وأعمدة من الغاز تفرّ من الثقوب السوداء، وانبعاثات راديوية تومض من منارات كونية، يُطلق عليها اسم “نجوم مشعة”، أو pulsars، لكن في عام 2007، نما إلى علمنا أن هناك شيئًا آخر1، هو اندلاعات راديوية سريعة (FRBs)، يبدو أنها تظهر بشكل عشوائي في السماء. وهي إشارات راديوية قصيرة للغاية، ومراوِغة، بحيث لم يستطع علماء الفلك تحديد المكان الذي تأتي منه. وفي بحث نُشر مؤخرًا في دورية Nature، أشار شاترجي وزملاؤه2 إلى موضع اندلاع راديوي سريع، بدقة عالية، وبشكل مبهِر، إلا أن ما رأوه هناك لم يتوقعه أحد.

إنّ رصْد الاندلاعات الراديوية السريعة ليس سهلًا. ففي النهاية، ليست أعيننا حساسة للموجات الراديوية. ورغم أن أكبر التليسكوبات من فئة المائة متر حساسة للغاية، إلا أنها لا ترصد سوى منطقة صغيرة نسبيًّا من السماء. ولذا.. كان من المفاجئ منذ ما يقرب من عشر سنوات اكتشاف ما يبدو كومضة راديوية معزولة، استمرت لبضع من الملِّي ثانية1. وفي وقت لاحق، تَبَيَّن أن تلك الومضات ليست نادرة على الإطلاق3. وفي الحقيقة، لو كانت لدينا أعين حساسة للموجات الراديوية؛ لَرَأَينا السماء تضيء مرتين تقريبًا كل دقيقة4، كما لو كانت هناك زَخَّة شُهُب راديوية مستمرة.

لذلك.. فإن السماء الراديوية غير ساكنة. وحاليًّا، تزدهر دراسة الظواهر الفلكية العابرة، كما لم يحدث من قبل. ويرتبط بعض الاندلاعات الراديوية فائقة القِصَر بوميض، أو تفاعلات الجسيمات الكونية مع كوكب الأرض5. ومع أن تلك الإشارات تُنتج داخل حدود الغلاف الجوي الخاص بنا، تختلف الاندلاعات الراديوية السريعة بشكل مذهل، حيث يبدو أنها تأتي من الكون السحيق.

ومِن السمات الرئيسة للاندلاعات الراديوية السريعة أنها تغيِّر “اللون الراديوي”، حيث إنها عندما تشتعل؛ تتحول سريعًا من تردُّد مرتفع إلى تردد منخفض. يُعرف هذا التأثير بشكل جيد، وعادةً ما ينتج عن تَشَتُّت الموجات الراديوية عند مرورها خلال الغاز الرقيق بين النجمي بدرب التبانة، إلا أننا نرصد في حالة الاندلاعات الراديوية السريعة تَشَتُّتًا ضخمًا للموجات الراديوية بشكل غير معتاد، ما يعني أن الموجات الراديوية تنتقل عبر جزء كبير من الكون، قبل أن تُرصد. ونتيجة لذلك.. تُعَدّ الاندلاعات الراديوية السريعة الآن هي الإشارات الراديوية الأبعد (وبالتالي الألمع) في الكون المعروف.

إِذَن، ما الذي يمكن أن ينتج هذا الكَمّ من الضوء راديوي التردد في هذا الزمن القصير؟ في البداية، بدا كما لو أن تلك الاندلاعات النارية من النوع الذي يحدث مرة واحدة  يسبِّبها – في الغالب – حدث كارثي ما، كانهيار مثلًا، أو اندماج نجوم نيوترونية بثقب أسود، بيد أن تلك الفكرة تحطمت عندما شُوهد تكرار اندلاع راديوي سريع6، رُصد بواسطة تليسكوب ويليام إي. جوردن بمرصد أريسيبو في بورتوريكو، فهل كان هذا الجسم نجمًا مُشِعًّا فائق السطوع في مجرة سحيقة؟ لسوء الحظ، لم يُكتشف وجود فترة نبضية، وكان الطيف الراديوي مختلفًا جدًّا عن ذاك الخاص بالنجوم المشعة النمطية.

وفي الوقت ذاته، الذي تم الإعلان فيه عن اندلاع راديوي سريع متكرر، ادَّعت دراسة أخرى7 أنها وجدت مصدرًا راديويًّا مصاحِبًا للاندلاع الراديوي السريع الذي بدا أنه يتلاشى على نطاق عدة أيام. فهل يمكن أن يكون هذا المصدر وميضًا متبقيًا من انفجار كوني؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل هناك فئتان من الاندلاعات الراديوية السريعة: تلك التي تتكرر، وتلك التي تنتج من انفجارات؟ سرعان ما تم التشكيك فيما ادعته تلك الدراسة8، إذ إنّ المصدر لم يستمر في التلاشي كما كان متوقَّعًا، حيث تصرف بشكل أقرب إلى الانبعاث الراديوي الخافت والمتقلب، الناتج عن ثقب أسود هائل غير مُغَذٍّ جيدًا9.

ومن ثم، قام شاترجي وزملاؤه باستهداف الاندلاع الراديوي السريع المتكرر؛ باستخدام “جهاز قياس التداخل”، وهو شبكة من التليسكوبات الراديوية التي توفِّر دقة فصل مكانية أفضل بكثير من التليسكوب المفرد. وعندما أُشعل الاندلاع الراديوي السريع المتكرر مجددًا، قام شاترجي وزملاؤه برصد الاندلاع باستخدام مصفوفة كارل جي. جانسكي الكبيرة جدًّا في نيو مكسيكو؛ واكتشفوا مصدرًا خافتًا ومستمرًا، ينبعث منه الضوء الراديوي والبصري (الشكل 1).

الشكل 1| اِلْتِقاط اندلاع راديوي سريع (FRB).


أعلن شاترجي وزملاؤه2 عن موضع اندلاع راديوي سريع، وهو انبعاث ساطع لموجات راديوية تدوم فقط لبضع من المِلِّي ثانية1.أ. يستخدم الباحثون رصدًا من شبكة تليسكوبات راديوية، تُدعى المصفوفة الكبيرة جدًّا؛ لإنتاج صورة راديوية لمصدر الاندلاع الراديوي السريع (الموضح بواسطة المربع). تمثل الألوان كثافة تدفق الموجات الراديوية، من منخفض (الأحمر) إلى مرتفع (الأبيض).ب، بعد ذلك، استخدم الباحثون رصدًا من تليسكوب جيمني البصري؛ لاكتشاف مصدر الضوء المرئي (المشار إليه بالدائرة)، الذي يتناسب مع المصدر الراديوي.

كبر الصورة

وأخيرًا، ترك الاندلاع الراديوي السريع أثرًا. إذًا، ما هو هذا الجسم؟ قام شاترجي وزملاؤه بإنتاج صور للمصدر الراديوي المستمر بدقة أعلى، وذلك باستخدام تليسكوبات شبكة VLBI الأوروبية، ومصفوفة الولايات المتحدة القاعدية الكبيرة جدًّا. ومثلما وُجد في الدراسة السابقة7، يبدو أن المصدر الذي اكتشفه الباحثون يشبه الانبعاث الراديوي المخلَّق بواسطة ثقب أسود عملاق، فهل هي مجرد صدفة؟ أم كان ادعاء الدراسة السابقة صحيحًا في النهاية؟ بالنسبة لي في الواقع، أجِد أنّ الطيف الراديوي وتَبايُن المصدر الذي يطرحه الباحثون يشبهان كثيرًا الثقوب السوداء منخفضة الطاقة، التي قمت بدراستها على مدار الخمسة وعشرين عامًا الماضية.

ولو كان هذا صحيحًا؛ لَتَوَقَّع معظم علماء الفلك وجود مجرّة ساطعة، لأن الثقوب السوداء الضخمة عادةً ما تُوجَد فقط في المجرّات الضخمة. لذا.. فمِن المربك تمامًا أن يكون المصدر البصري الخافت الذي تَصادَف وجوده مع وجود المصدر الراديوي المستمر هو – على أقصى تقدير – مجرّة “قزمة” صغيرة، إذا ما كان مجرّة أصلًا.

ولعل المصدر البصري الذي توصَّل إليه الباحثون هو مجرّة قزمة تحتوي على ثقب أسود هائل، أو نواة مجرّة ممزقة، أو حتى مجرد ثقب أسود معزول. وقد يكون المصدر المستمر شيئًا آخر مختلفًا كليًّا، كنجم منفجر مثلًا، مخفيّ، بحيث يبدو وكأنه ثقب أسود. فهل صُنعت تلك الاندلاعات بواسطة الثقب الأسود نفسه، أم بواسطة شيء آخر يدور حوله؟ على كل حال، عادةً ما تكون الثقوب السوداء الهائلة محاطة بعناقيد نجمية كثيفة. وقد ترك ذلك شاترجي وزملاءه وبقية مجتمع علماء الفيزياء الفلكية في حيرة من أمرهم.

ولا يزال اكتشاف الباحثين – حتى مع عدم وجود إجابة واضحة – بمثابة نقطة فارقة حقًّا، وتجري مطاردة الاندلاع الراديوي السريع على قدم وساق. ودون شك، سيؤدي العمل الجاري إلى ادعاءات كثيرة جديدة في الأشهر القادمة، لكن هل سيتم إغلاق القضية قريبًا؟ ينبغي علينا كمحققين جيِّدين تجنُّب التسرع في تَبَنِّي المذاهب الحديثة الناشئة، حتى عندما نعتقد أننا قد قبضنا على المتهم متلبسًا، فالاندلاعات الراديوية السريعة تتسلل برشاقة، ولا تتشابه جميعها بالضرورة. وأنا على يقين من أنه لا يزال هناك الكثير مما ينبغي اكتشافه في السماء الراديوية.

المصدر