بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد آرثر سي كلارك، يشيد أندريو روبنسون بالكاتب الأصيل ذي البصيرة.
آرثر سي كلارك عام 1968، على مجموعة “2001: أوديسا الفضاء”.
عندما توفي آرثر سي كلارك عام 2008، نعاه عالِم الفيزياء الفلكية والكاتب في حقل الخيال العلمي جريجوري بنفورد في مجلة Nature، واعتبره “الأكثر شهرة من بين كُتّاب الخيال العلمي” (انظر: G. Benford, Nature 452, 546; 2008). ويبدو أن المخرج الهوليوودي لفيلم السيرة الذاتية: ستيف جوبز Steve Jobs 2015 يتفق على هذا؛ إذ يعرض الفيلم في البداية لقطات، بالأبيض والأسود، عن كلارك خلال ظهوره في لقاء تلفزيوني جرى تصويره عام 1974، قبل عامين من مشاركة جوبز في تأسيس شركة آبل Apple. كان كلارك يظهر أصلع الرأس بنظارتيه أمام مقدم البرنامج، وابنه الشاب في مكتب واسع ينبض بحواسيب ضخمة. شدّ كلارك انتباه الجميع بقوله: “الفارق الكبير عندما يكبر هذا الشاب -في الواقع لن تضطروا إلى الانتظار حتى سنة 2001- هو أنه ستكون له في منزله الخاص لوحة تحكم، يمكنه من خلالها التحدث إلى حاسوبه المحلي اللطيف والحصول على جميع المعلومات التي يحتاج إليها في حياته اليومية”.
كان معروفًا عن كلارك، الذي وُلد قبل 100 سنة، أنه ثاقب البصيرة. لقد توقع -على سبيل المثال- ظهور الاتصالات الفضائية وأجهزة الحواسيب القوية في شكل HAL (الحاسوب الخوارزمي المبرمج) في الفيلم ذي الجماهيرية الواسعة “2001: أوديسا الفضاء”A Space Odyssey :2001″ الذي أُنتج عام 1968. كما روَّج لمصعد الفضاء. وهو التصوُّر الذي يمتلك الآن أساسًا علميًّا قويًّا انظر: Nature http://doi. org/fv4rxv; 2007، وكان محور قصة “نوافير الجنة” ( The Fountains of Paradise (1979، وهي واحدة من عشرات روايات الخيال العلمي التي كتبها.
“أدهشني فضوله، الذي لا يعرف الفتور، حول العلم والأدب والحضارة -الإنسانية وما خارج كوكب الأرض”.
بوصفي ناشرًا لكتابات كلارك -التي لا تندرج ضمن الخيال العلمي- في الثمانينيات من عمره، أدهشني فضوله، الذي لا يعرف الفتور، حول العلم والأدب والحضارة -الإنسانية وما خارج كوكب الأرض. وكان عادةً يتقبل طلبي في مراجعة كتاب بعدما يكون رده في البداية غير مشجع بحجة انشغاله الجنوني. ومن النادر أن تحتاج مراجعاته إلى تحرير جديد.
بدأ اهتمام كلارك بمجال الاتصالات في ريف مقاطعة سومرست، المملكة المتحدة . وكان والده مهندسًا مسؤولًا عن الشبكات الهاتفية والبرقية. أما والدته، فكانت عاملة تلغراف. حصل الفتى آرثر على معدات بالية -مثل الهواتف والمفاتيح الكهربائية والخلايا الضوئية- من قريبه المهندس جورج جريمستون، الذي علّمه تركيب مجموعات بلورية لاسلكية. كما جرب كلارك الصواريخ محلية الصنع على الأراضي الزراعية التي تمتلكها الأسرة. كان كلارك قد قرأ كتاب ديفيد لاسير “غزو الفضاء”(The Conquest of Space (1931، الذي يقدم مدخلًا إلى الصواريخ والرحلات الفضائية، كما أدمن مجلاّت الخيال العلمي الأمريكية الرخيصة Pulp magazines. وانضم كلارك إلى “جمعية الكواكب البريطانية” British Interplanetary Society التي تأسست عام 1933 للترويج للرحلات الفضائية (كان معظم العلماء والمهندسين ينظرون آنذاك إلى مثل هذه الرحلات على أنها مفهوم جاءت به جماعات مهمشة حمقاء).
في عام 1936، وبعد أن حصل على الدرجة الكاملة في الحساب عند اجتيازه امتحان القبول في الخدمة المدنية، انتقل كلارك إلى لندن وعمل في وزارة المالية والمراجعة. وخلال الحرب العالمية الثانية، اكتسب خبرة في الهندسة الإلكترونية في أثناء تركيب واختبار رادارات يتحكم فيها سلاح الجو الملكي برًّا – وهو الموضوع الذي كتب عنه لاحقًا في روايته الدرامية الوحيدة البعيدة عن الخيال العلمي، “مسار الانزلاق” Glide Path 1963.
في عام 1945، انطلق كلارك عن غير قصد في مسيرته باعتباره عالِم مستقبليات، مجهَّزًا بمخططه حول قمر صناعي للاتصالات الثابتة في الأرض . وفي رسالة (عنوانها ‘V2 للبحث في الطبقة الأيونية؟’ ?V2 for ionosphere research) نُشرت في عدد فبراير من مجلة “عالم اللاسلكي” Wireless World -وكانت مستوحاة من الصواريخ الألمانية V2 التي تساقطت حينئذٍ على لندن- قدم كلارك اقتراحًا ثوريًّا جاء فيه:
“إذا وُضع ‘قمر صناعي’ ما على مسافة مناسبة من الأرض، سيدور دورةً واحدةً كل 24 ساعة، أي أنه يظل ثابتًا فوق النقطة نفسها، وسيكون في نطاق المدى البصري لما يقارب نصف سطح المعمورة. ويمكن لثلاث محطات لتكرار الإشارة، يبعد بعضها عن بعض بمقدار 120 درجة على المدار الصحيح، أن تتيح تغطية تلفزيونية وأخرى بالموجات الصغيرة للكوكب بأكمله.
ثم اختتم كلارك كلامه بواقعية قائلًا: “أخشى ألا يكون هذا ذا جدوى تُذكر لمخطِّطينا لما بعد الحرب، لكن أعتقد أن هذا هو الحل النهائي لتلك المشكلة”. وتلا ذلك بعرض أكثر تفصيلًا في عدد أكتوبر من مجلة عالم اللاسلكي، متصورًا “محطات فضائية” تعتمد على صمامات أيونية حرارية يتولى صيانتها طاقم طائر، يُرسل إليها على متن صواريخ تعمل بالطاقة النووية.
الأب الروحي للفضاء
تم إنشاء أول قمر صناعي للاتصالات التجارية، “تلستار Telstar I “I، من قِبَل مختبرات “بل” للهاتف، وأُطلق عام 1962. وكان أول قمر صناعي ثابت بالنسبة للأرض هو “إنتلسات Intelsat I “I (المعروف باسم ‘إيرلي بيرد’ ‘Early Bird’) الذي صنعته شركة “هيوز للطائرات” Hughes Aircraft صعد إلى السماء عام 1965. وقد أُطلق القمران الصناعيان على متن صواريخ تقليدية، وكانا يعملان بالترانزستورات ومن دون صيانة بشرية. والجدير بالذكر أن المهندسيْن الأمريكيين المسؤلين الرئيسيين عن القمرين الصناعيين -وهما جون بيرس للقمر الصناعي تلستار، وهارولد روزن للقمر الصناعي إنتلسات- كان ينظران لكلارك باعتباره الأب الروحي للاتصالات عبر الأقمار الصناعية. كما أن ريتشارد كولينو، مدير عام “إنتلسات” Intelsat (المنظمة الدولية لاتصالات الأقمار الصناعية ) أيد هذا الرأي في مقدمته لمجموعة من النصوص التقنية لكلارك صدرت تحت عنوان “الصعود إلى المدار” (Ascent to Orbit (1984. هذا ويفضل كلارك وصفه بـ”الأب الروحي”، مشيرًا في الكتاب بتواضع غير معهود: “أعتقد أنني تلقيت تقديرًا أكثر مما أستحقه فعلًا”. وفي سن الشيخوخة، صرح لي بأن مقاله عن هيئة الاتصالات اللاسلكية comsat “كان أهم شيء كتبته في حياتي”.

جاري لوكوود في دور فرانك بول في فيلم 2001.
كان كلارك قد دعم تدريبه العملي خلال الحرب بإعداد شهادة البكالوريوس في الرياضيات والفيزياء في كلية “كينجز كوليج”King’s College بلندن، التي تخرج فيها عام 1948. وفي عام 1950، نشر كتابه اللاقصصي “تحليق بين الكواكب” Interplanetary Flight، الذي زعم فيه أنه أول دراسة باللغة الإنجليزية تقدم “النظرية الأساسية للسفر عبر الفضاء بكل تفاصيلها التقنية”. (وقد اقتبس فيه من كتاب “صاروخ في فضاء الكواكب” The Rocket into Planetary Space لصاحبه هيرمان أوبارت المنشور باللغة الألمانية عام 1923). وربما أسهم تهديد الحرب الباردة باندلاع حرب نووية في حماس كلارك المتزايد بشأن مستقبل البشرية خارج كوكب الأرض. وبعد عام 1957، عندما دشن القمر الصناعي سبوتنيك السوفييتي عصر الفضاء، برع كلارك في تبليغ تفاؤله بهذا الإنجاز إلى العلماء، والمهندسين، والجمهور من خلال الكتابات، والمسلسلات التلفزيونية، والمقابلات الإعلامية، وكذا بتعاونه الصريح مع ستانلي كوبريك بوصفه مساعدًا له في كتابة سيناريو فيلم “2001“.
رؤية وتأثير
الخيال الخصب لدى كلارك يشمل التقنية الشجاعة والرائعة بلا خجل، والتي تظهر تقريبًا في نفس الصفحة. وتشمل قصصه القصيرة العديدة “الحارس”(The Sentinel‘ (1951’، التي احتوت على عنصر أساسي من فيلم “2001: أوديسا الفضاء” -وهو اكتشاف الإنسان لكائن بشري غريب على سطح القمر- ومن قصة “تسعة مليارات اسم للرب”( The Nine Billion Names of God‘ (1953’، وهي رواية ساخرة لمهندسيْن اثنين في علم الحاسوب وظَّفهما رهبان من التبت لخلق الألقاب الإلهية.
كانت أشهر رواياته، إذا استثنينا “2001: أوديسا الفضاء” (قام كلارك وكوبريك بإخراج الكتاب الصادر عام 1968 جنبًا إلى جنب مع الفيلم، هي الرواية شبه الصوفية “نهاية الطفولة”(Childhood’s End (1953. نجد هنا أن الأرض يتحكم فيها سادة عظام، وهم غرباء أخيار وضعوا حدًّا للحروب والجوع والمرض، وكذلك للمغامرة والابتكار. وكما هو الحال مع المصعد تبرز الدراما التقنية “نوافير الجنة” جزيرة تشبه كثيرًا وطن كلارك المعتمد، سريلانكا. أما روايته المفضلة “أغاني الأرض البعيدة” The Songs of Distant Earth 1986 فتتحدث عن أناس سكنوا الأرض قديمًا ثم فرّوا من الدمار الذي توقعوا أنه سيصيب هذا الكوكب من جراء نجم شمسي متجدد خلال الألفية الرابعة، ليستقروا بنهاية المطاف في ثالاسا، وهو كوكب محيطي تابع لنظام نجمي آخر.
أما مؤلفاته الغزيرة خارج الخيال العلمي فتتكون من مقالات ومراجعات جرى جمعها في كتاب بعنوان “تحية للقدمين المعتمدتين على الكربون”( Greetings, Carbon-Based Bipeds! (1999، فضلًا عن العديد من الكتب حول الفضاء التي كان لها صدى واسع. يتذكّر عالِم الفلك ومروج العلوم كارل ساجان كتاب “تحليق بين الكواكب”، باعتباره “نقطة تحوّل في تطوري العلمي”. أما مصمم الصواريخ لدى وكالة ناسا فيرنهر فون براون فقد استخدم كتاب “استكشاف الفضاء”( The Exploration of Space (1951 لإقناع الرئيس الأمريكي جون كينيدي بأن الأمريكيين قادرون على الذهاب إلى القمر، بل وينبغي عليهم القيام بذلك. كما ألهم كتاب “ملامح المستقبل” ( Profiles of the Future (1962، في فصله الخاص بـ”الانتقال الآني”، المخرج جين رودنبيري ليصوغ مظاهر التطورات المستقبلية في مسلسل “ستار تريك” Star Trek (انظر: S. Perkowitz, Nature 537, 165–166; 2016).
دائمًا ما تعزَّزَ علم المستقبل لدى كلارك بالوعي بتاريخ الحضارة، والعلوم، والتكنولوجيا. فعلى سبيل المثال، ينبه كتاب “ملامح المستقبل” إلى أن الكتابة “ربما تمثل الاختراع الوحيد الأهم للجنس البشري”. أضف إلى ذلك توقعاته الفطنة حول التطور التكنولوجي في الفضاء -بما فيها بثه عبر الأقمار الصناعية من سري لانكا– وستدرك حينها أساس سمعته الفريدة من نوعها.
“علينا بتنظيف بالوعاتنا التي نسير فيها الآن، لكن لا ينبغي أن تغيب النجوم عن أنظارنا”.
هل ستستمر، مع تلاشي الرجل نفسه في التاريخ؟ الجواب يتوقف على التطوُّرات المستقبلية في الفضاء. هل سيستوطن الإنسان القمر والمريخ وما وراءهما؟ كلارك (الذي سُمي الكويكب 4923 باسمه) يعتقد أن هذا أمر لا بد منه. في عام 1992، كتب كلارك في نشرة علماء الذرة The Bulletin of the Atomic Scientists معقبًا على ملحوظة شهيرة لأوسكار وايلد: “علينا بتنظيف بالوعاتنا التي نسير فيها الآن، لكن لا ينبغي أن تغيب النجوم عن أنظارنا”.
وماذا عن آفاق الاتصال بخارج الأرض؟ كان كلارك في نهاية عام 2000 قد وقّع في نسختي الشخصية من كتابه “تحية للقدمين المعتمدتين على الكربون” بهذه العبارة المتميزة: “آمل أن تتم هذه التحية وأنا على قيد الحياة!”، وفي عيد ميلاده التسعين عام 2007، كانت رغبته الأخيرة “أن يتواصل معنا مخلوقات ما خارج الأرض” ربما عن طريق إشارات الراديو، أو حتى عبر ظاهرة فلكية.
مما لا شك فيه، أن أفضل كتاباته الخيالية والألمعية ذات الأساس العلمي، سوف تساعد في الحفاظ على هذه الألغاز المهمة في صدارة الوعي البشري.
المصدر