ديناميكا الموائع: تدفّق الماء خارج السيطرة

تميل جزيئات الموائع إلى الالتصاق بالأسطح الصلبة حتى ولو كانت المادة المائعة تتدفق بسرعة عالية. وتتسبب خاصية عدم الانزلاق هذه في ظهور مقاومة احتكاكية كبيرة، وهو ما يؤدي إلى استهلاك الوقود في المركبات، وإلى تكاليف في عملية الضخ لزيادة التدفُّق عبر الأنابيب. غير أن هناك طريقة محتملة للحد من مقاومة تدفُّق المياه تكمن في صناعة أسطح شديدة المقاومة للماء. يتمثل ذلك في تغليفها بطبقة تحوي جيوبًا هوائية تفصل بين المادة المائعة والمادة الصلبة، وهو ما يتيح للماء الانسياب بسهولة أكبر. ومع ذلك، فنسبة الانسياب غالبًا ما تكون ضعيفةً، وعندما يغمر الماء مثل هذه الأسطح فإن ما يحدث بصفة عامة هو أن الهواء المحبوس يتسرب بسرعة إلى خارج تلك الطبقة. في مقال نُشر في دورية Science Advances استفاد سرانادي وزملاؤه 1 من الاكتشاف3،2 الذي يؤكد أن تسخين سطح شديد المقاومة للماء يمكن أن يحيط هذا السطح بطبقة مستقرة من البخار. في ظل تلك الظروف، أثبت المؤلفون أنه يجري الاحتفاظ بقدرة انسيابية عالية جدًّا لفترات طويلة.

يمكن تحسين خصائص عدم التبلُّل التي تتميز بها الأسطح شديدة المقاومة للماء تحسينًا كبيرًا بتخشين السطح على المستويين المجهري أو النانوي. يسمح ذلك باحتباس الهواء في تجاويف السطح، شأنه شأن الماء المُنساب على ورقة لوتس؛ إذ تحتفظ القطرات السائلة بقدر كبير من حرية الحركة عند ملامسة مثل تلك المواد. ومع ذلك، عندما يغمر الماء هذه المادة تمامًا فإن كمية الهواء المحجوز تتضاءل تدريجيًّا إلى أن تلتصق جزيئات الماء بالسطح. وحتى نمدّ من عمر طابع المقاومة الشديدة للماء والخصائص الانزلاقية للمادة ينبغي إعادة ملء السطح بالهواء (أو أي غاز آخر).

هناك طريقة تمكّن من تغليف سطح مغمور بالماء بغشاء غازي، وذلك من خلال تسخينه بشكل سريع. وبمجرد أن نتجاوز قليلًا درجة غليان المادة المائعة، يظهر البخار على شكل فقاعات منعزلة على السطح الساخن –وهو ما يُعرف بنقطة بداية الغليان- وتسمى هذه العملية “الغليان النووي” nucleate boiling. عندما تزداد درجة حرارة السطح وتجتاز ما يسمى بـ”درجة حرارة ليدنفروست”، يُنتِج الغليان غشاء بخاريًّا مستدامًا. بالنسبة للمواد العادية، نلاحظ أن درجة حرارة ليدنفروست تفوق بكثير درجة غليان الموائع، وعند تبريد المادة، يتبدد الغشاء فجأة، مما يتسبب في عودة النظام إلى الغليان النووي. وخلافًا لذلك، عند تسخين سطح شديد المقاومة للماء إلى درجة حرارة عالية ثم تبريده، فإن الغشاء البخاري لا يتبدد –حتى ولو وصلت الحرارة لما دون نقطة غليان المائع– وعندئذٍ يمكن للنظام تجنُّب الغليان النووي2. باستخدام هذه الطريقة3، يمكن أن تظل طبقات البخار قائمةً حول كرات ذات أسطح شديدة المقاومة للماء وهي تتهاوى عبر الماء. ومن ثَم نستطيع خفض قوة الاحتكاك بنسبة تصل إلى 75% مقارنة بقوة احتكاك الكرات العادية (غير المقاومة بشدة للماء وغير المُسخنة).

وقد أضاف سرانادي وزملاؤه لهذه النتائج نتيجة حاسمة أخرى، وهي أنه يمكن إدامة غلاف الغشاء البخاري إلى ما لا نهاية تحت الماء طالما ظل السطح شديد المقاومة للماء مُسخنًا باستمرار. والمثير للدهشة أن المؤلفين لاحظوا أن هذه الغشاءات تبقى سليمة وفعالة حتى في بيئة تدفُّق مضطرب، حيث تخضع الواجهة الفاصلة بين المادة الصلبة والمادة المائعة لضغوط تقلُّب حادة– وهي الظروف التي قد تسوء فيها بسرعة حالة الأسطح العادية شديدة المقاومة للماء.

في التجربة التي قام بها المؤلفون، وُضع الماء الساخن داخل الفجوة التي تفصل أسطوانتين لهما محور مشترك، وقد جعلوا الأسطوانة الداخلية تدور حول محورها (الشكل 1). ثم سُخِّن سطح الأسطوانة الداخلية الشديد المقاومة للماء حتى وصل لحرارة 160 درجة مئوية، وحينئذٍ تشكلت طبقة بخارية واستقرت، فانخفض الاحتكاك بنسبة 90% بالمقارنة بحالة السطح العادي. قام سرانادي وزملاؤه بتقدير نسبة الانزلاق على السطح الساخن فوجدوا أنها تتجاوز بمئة مرة تقريبًا الحد الأقصى للانزلاق الذي يمكن تحقيقه باستخدام المتداول من الأسطح الشديدة المقاومة للماء. وقد رأوا أن سبب ذلك راجع إلى السُّمك غير العادي للطبقة البخارية (حوالي 50 ميكرومترًا). كما عزَوْه إلى أن الطبقة كانت تغلِّف كامل السطح -متضمنًا بنيته المجهرية التي تتعرض جزئيًّا للسائل المحيط بها، في حالة الأسطح شديدة المقاومة للماء غير الساخن.


الشكل 1 | الحفاظ على سطح شديد المقاومة للماء: أجرى سرانادي وزملاؤه1 تجربة تستخدم ماءً وُضع في الفجوة الكائنة بين أسطوانتين تشتركان في المحور نفسه. الأسطوانة الداخلية في حركة دورانية بالنسبة للأسطوانة الخارجية، مما يتسبب في انسياب الماء في هذا النظام. تتضح سرعة تدفق الماء هنا بملمح سرعة المائع حيث يتناسب طول كل سهم في الشكل مع السرعة في تلك النقطة (باعتبار الأسطوانة الداخلية مرجعًا). إن سطح الأسطوانة الداخلية شديد المقاومة للماء -وهو سطح غير منتظم وخشن، ومن ثَم يتسبب في احتباس الهواء في فجواته. وعند عمل تسخين متواصل للأسطوانة الداخلية لاحظ المؤلفون ظهور غشاء من البخار غطى السطح الشديد المقاومة للماء. يخفض هذا الغشاء مقاومة الاحتكاك على مستوى الواجهة بين الأسطوانة الداخلية والماء، ويظل الوضع على تلك الحالة حتى عندما يخضع النظام لضغوط كبيرة كالتقطيع وظروف التدفُّق المضطرب. (مقتبس من المرجع 1.)

كبر الصورة

منذ عهد بعيد كان البحث على قدم وساق في سبيل الحصول على مواد تتمتع بخاصية انزلاق قوية في التدفُّقات الظاهرة للعيان. في الوقت الراهن، لا تعمل هذه المواد إلا في ظل ظروف خاصة (في حالتنا هنا، يتم ذلك عند ارتفاع درجة الحرارة) ولذا فمن غير المرجح أن تُستخدَم في تطبيقات واسعة النطاق. وفضلًا عن ذلك، فإن تجديد الغشاء البخاري يستهلك حاليًّا من الطاقة أكثر مما يوفره انخفاض الاحتكاك الناتج عنه. وبالرغم من هذا، فمن الناحية المبدئية، يُعدّ ظهور مواد قادرة على توفير انزلاق جزئي في الواجهات الفاصلة بين المادة الصلبة والمادة المائعة خطوةً كبيرةً نحو الأمام، وسيحفز ذلك تعميق الأبحاث.

كما يمكن أن تكون النتائج التي توصل إليها المؤلفون ذات أهمية بالغة عندما يتعلق الأمر بالبحث في حقل التدفُّق المضطرب. نلاحظ في التدفقات التي تحدُّها جدران (كحال الأنابيب) أن الاضطراب ينشأ بصفة أساسية عن الاحتكاك بين المائع والجدار. وعند إدخال الانزلاق الجزئي ومراقبة كيفية تكيُّف الاضطراب مع هذه الظروف الجديدة، يمكن أن نتوصل إلى معلومات أساسية حول آلية بقاء الاضطراب قائمًا.

إن البحث في موضوع المواد التي تدعم نقل موائع ذات مُعامِلات احتكاك ضعيفة شبيه بعض الشيء بالبحث في عمل الموصلات الفائقة4 على درجة حرارة الغرفة. ولا تعمل الموصلات الفائقة5 في الوقت الراهن إلا عندما تكون درجة الحرارة أدنى من الصفر؛ في المقابل، نجد عند نظيرتها في الفيزياء الكلاسيكية -أي مسألة تقليل احتكاك الموائع- أن أكبر نسبة انزلاق دائم توصل إليها المؤلفون يحدث عندما تتجاوز الحرارة درجة حرارة الغرفة. وإذا استطاع كلا التأثيرين بلوغ الهدف عند درجة حرارة الغرفة، فمن المرجح أن يكون لذلك وَقعٌ كبير على الاستهلاك العالمي للطاقة.

المصدر